تسلل ضوء الفجر الواهن من النافذة ليزيل جزءاً من ظلام الحجرة ... اتخذ طريقه بهدوء إليها ... أخذ يتحسس الجسد النائم وينتشر حوله, تتقلب في الفراش .. تتململ .. تفتح عينيها .. تبتسم للنور الذي أخذ يضيء حجرتها كما أضاء هو حياتها . حلقت بأجنحة خيالها عبر النافذة التي يتخللها الضوء البسيط .. تطير .. تحلق بأفكارها عبر الآفاق الرحبة للسماء .. تتذكر لقاؤهما الأول ....
كانت تجلس في شرفتها ليلاً .. تناجي القمر شاكية له قصة حبها الفاشل .. تبكي .. تتنهد ... يحنو عليها القمر مواسياً .. يهمس للنسيم .. فيأتي إليها حاملاً صوت خافت لألحان لا تكاد تُسمع .. تسترق السمع .. تقوى الألحان تدريجياً .. تتخللها .. تشعر بها تنتشر في جنبات عقلها .. تسمو بروحها .. كأنها ألحان ملائكية .. من فرط عذوبتها ورقتها لا تكاد تسمعها .. وإنما تشعر بها في روحها مباشرة .. مع انسياب هذه الموسيقى حولها , يبدأ البركان الثائر بداخلها في الخمود .. يرتخي جسدها المشدود .. تلين أعصابها .... تستند برأسها على المقعد .. تنصت .. وتحلق مع هذه الألحان في عالم آخر ثم تعود لتستقر ثانية في جسدها المكدود.
فجأة تصمت الموسيقى .. يُخيل إليها أنها تسمع صوت آهة متألمة ونحيب صامت محزن .. لدهشتها تُدرك أن مصدر هذا النحيب المحزن هو نفسه مصدر تلك الموسيقى الرائعة الحالمة .. تتسائل : كيف يجتمع هذا البكاء المر مع تلك الألحان ملائكية الرائعة؟؟ .. مع التركيز تدرك أن الصوت لرجل .. يسود الصمت ... تسمع صوت ارتطام كرسي بالأرض ثم سكون تام ... تنتظر ... بعد فترة تجد لا جدوى من الانتظار تدخل غرفتها لتنام .
في نفس الميعاد من اليوم التالي تخرج للشرفة ... تجلس لتستمع للموسيقى الملائكية وهي تتهادى حولها .. الألحان اليوم مختلفة .. تبدو وكأنها أكثر عذوبة من التي استمعت إليها بالأمس .. تصيخ السمع لتحدد مصدر الصوت بدقة .. تكتشف أن الصوت قادم من شقة مظلمة بالكامل في المبنى الذي يليها مباشرة .. !! ولكن كيف؟؟ واضح من الموسيقى أنها صادرة من بيانو ..فكيف يستطيع هذا العازف أن يعزف بهذه المهارة في هذا الظلام ..؟؟
ينتزعها من تساؤلاتها تغير الموسيقى بعد فترة صمت قصيرة .. الموسيقى الجديدة لها وقع آخر .. إنها ... لا توصف ... إنها .. مهلاً ..إنها سيمفونية بيتهوفن التاسعة .. تلك السيمفونية الشهيرة "القدر" .. إنها صعبة جداً و لكن العازف المجهول يعزفها ببراعة .. يؤديها باقتدار .. الموسيقى تتحول لأحاسيس تغمرها .. تكاد تتحول لكلمات .. ولكن .... كيف .. كيف في هذا الظلام؟؟؟. ترمي دهشتها وراء ظهرها وتترك نفسها لتحلق مع هذه الموسيقى الخلابة ...
بعد عدة أيام من الاستماع الليلي قررت شيئاً هاماً .. لم يكف خجلها لردعها عنه .. قررت الذهاب لبيت العازف بنفسها .. لتريح قلبها من التساؤلات .. طرقت الباب .. تناهى لسمعها صوت هادئ .. عميق ..يطالب الطارق بالانتظار .. فُتح الباب .. أطل منه صاحب الصوت وصاحب الألحان ... أحست أن نظرته غريبة نوعاً .. لم تعر هذا الأمر اهتماماً .. سألته السماح لها بالدخول بعد تعريف نفسها .. قادها لحجرة الضيافة .. لاحظت أن مشيته غريبة وإن كانت واثقة ..لم تلتفت لهذا ... بعد جلوسها سألها بتهذيب عن سبب الزيارة ... أجابته بصوت هامس : أحببت أن أتعرف على صاحب تلك الألحان الرائعة .. بدت السعادة على وجهه و سألها : ولكن كيف سمعتني؟؟ أجابته: كنت أستمع إليك ليلاً لفترة طويلة ولم أستطع منع نفسي من القدوم إليك. ولكني أريد أن أسألك : كيف تعزف بهذه المهارة بدون ضوء؟؟
أجابها والمرارة تبدو على ملامحه: لا أحتاجه..!!. لم تفهم ..ولم يمهلها لتفهم, بل اتجه إلى البيانو .. ارتطم بكرسي البيانو في طريقه .. لاحت لها في هذه اللحظة الحقيقة التي ما كانت تتوقعها ... يا لغبائي .. كيف لم أفهم ..؟؟ العزف بدون ضوء .. النظرة الغريبة لعينيه .. المشية الغير طبيعية .. يا إلهي ..!! , ثم صاحت بفزع : أأنت ....؟؟ فقال بمرارة : نعم. .. أعمى .. سألته : ولكن كيف ...؟؟ إن عزفك مُبهر... فقال لها : لقد كنت معيد بمعهد الكونسرفتوار , وتعرضت لحادث فقدت بصري على إثره . اقتربت منه وربتت على كتفه عندما لاحظت أن الدموع تسيل من عينيه في صمت .. قالت له : الأمل دائماً موجود .. وأنت مؤمن بالله , لا تفقد حسن ظنك به.
تكررت لقاءاتهما .. يتحادثان .. يتمازحان .. ثم يقوم هو يعزف لها على البيانو وهي تشجعه, بعد إلحاح أقنعته بالتقدم لمسابقة للالتحاق بدار الأوبرا كعازف محترف .. تردد .. أخذته من يده وقالت له .. سأكون بجانبك دائماً .. تخيل أنك تعزف لي وحدي كما تفعل دائماً .. ذهبا .. حان دوره في الاختبار ..همست في أذنه وهو يتقدم من البيانو : أنا معك .. تقدم ..عزف ..أبدع كما لم يبدع من قبل .. ونجح في الاختبار .. وتم تعيينه بالفعل .. بدأ المشوار في الأوركسترا كعازف عادي .. مع الوقت ظهرت موهبته واضحة ..
عرض عليه المسئولون أن يُقدم حفلات منفردة .. كاد يطير من السعادة .. بدء يشتهر .. كان مظهره بالبدلة السوداء الأنيقة و المنظار الأسود على عينيه ومشيته الواثقة في طريقه للبيانو كاف لتلتهب الأكف بالتصفيق قبل حتى أن يبدأ العزف.
كانت دائماً بجانبه .. ترافقه في كل حفلاته , وتهمس له في كل مرة : أنا معك .. وكان هذا كافياً ليفجر لديه كل طاقاته وإبداعه .. وخلال انهماكه في عمله الذي أحبه وأخرج فيه كل إمكانياته كانت هي تحاول البحث عن أمل في أن يعود إليه بصره .. وتحقق الأمل عندما قرأت في جريدة عن وصول طبيب عالمي متخصص في الجراحات الدقيقة للعيون إلى مصــر .. اتصلت به .. اتفقت معه على موعد للقاء يبدو عفوياً لفرط حساسيته وإمكانية غضبه ورفضه للموضوع لو اقترحت عليه مباشرة ..ولحسن الحظ كان الرجل هاوياً للموسيقى فاقترح أن يبدو اللقاء عفوياً من خلال حضوره كمستمع لحفلة من حفلاته ..
بعد الحفل ذهب إليه الطبيب ..وأدار معه الحوار ببراعة إلى أن وصل للنقطة التي يريدها .. وتحدث معه واستفاض بهما الكلام حول مشكلته .. اقترح الطبيب أن يأتي إليه في المستشفى كي يفحصه بدقة ويحدد مدى إمكانية نجاح العلاج .. وافق .. ورافقته هي إلى المستشفى .. وبعد الكشف والأشعة والتحاليل المختلفة ,أخبرهما الطبيب بأن نسبة نجاح عملية جراحية لإعادة البصر إليه مرتفع جداً ومُبشرة .. ولكن ...!!! كان الشرط أن يتم إجراؤها في الخارج لتوافر الإمكانيات المناسبة والرعاية المطلوبة في فترة ما بعد العملية .. تردد .. شجعته وقالت له أنها ستعتني بالشقة في غيابه .. وأنها ..... ستنتظره.
التفت إليها وسألها .. أتعنين هذا حقاً؟؟ .. أجابته والخجل باد على ملامحها وصوتها : بالطبع أعنيه .. ألم تدرك للآن؟؟ قال لها وهو يكاد يحلق من السعادة : خفت أن أكون عشت في وهم خلقته لنفسي .. أنا أُحبك .. وكل ذرة في كياني تنبض بحبك .. ولكني خشيت الإفصاح عن حبي حتى لا أُصدم .. وما كنت أتحمل فكرة فقدك.. فهمست في أذنه قائلة : وأنا أيضاً أُحبك .. ولأجل حبي هذا أرجوك أن تذهب لإجراء العملية .. أجابها : سأفعلها من أجلك .. كي أراك.. لم تشعر بنفسها إلا وهي بين ذراعيه تبكي .. جفف دموعها قائلاً : سأعود .. من أجلك.
أفاقت من ذكرياتها على صوت جرس الباب .. أسرعت تفتحه .. فهي تعلم أنه هو .. نظرت إليه .. أحاط وجهها بكفيه قائلاً .. يا إلهي .. ما أجملك .. طفرت عيناها بالدموع وهي تقول له : حمداً لله على سلامتك .. تقدم إليها .. ضمها إليه برفق وهو يمسح دموعها قائلاً : ها قد عدت يا حبيبتي ..بصيراً .. لا تمنعني عنك سحب الظلام .. ولن يفرقنا شيء , فلن أستطيع البعد عنك ثانية .. لقد كدت أُجن وأنا بعيد عنك .. لقد أصبح وجودك في حياتي أهم من حياتي نفسها .. قالت له : و أنا كنت أحسب الثوان في انتظار رجوعك وكلما مرت ثانية شعرت بأنها تقرب من موعد عودتك .. سألها : أجيبيني بصراحة .. أتتزوجينني؟؟ فضمته إليها أكثر قائلة بهمس : أتسألني؟؟.
البداية..
بقلم: عمر الطحان