Monday, March 18, 2024

سيزيف .. الآخر !

أمقت الضعف الناتج عن الإعتمادية علي إنسان أو شيء بحيث إذا ذهب استلب معه قطعة من روحي .. 

فلا تعود يومًا كما كانت .. 

الناس دائمًا تواسي بعضها في هذه المواقف قائلة ‘‘ كله بيعدّي‘‘ جملة تعيسة جدًا.. أكيد كله بيعدّي .. لكن بأي ثمن؟ 

حرصت طوال عمري علي تصوّر الوداع في أولي لحظات اللقيا .. والفراق مع أولي كلمات الوصل .. أرتّب نفسي لهذا اليوم، حتى إذا أتى أتعامل معه كممثل يؤدي نصًا مسرحيًا حفظه من كثرة التكرار .. يندمج بمشاعره لحظة الأداء، لكن بعد أن ينتهي يغيّر ملابسه ومعها جلد الشخصية عائدًا لذاته القديمة .. 

 إلا معكِ .. 

 وجدتني فعلًا في كامل الإستسلام لضعفي الذي ميزته بالفعل منذ البداية.. 
كل مساحة الإستقلال الشعوري التي بنيتها طوال قرابة الخمسة عقود انهارت معكِ ... على درجات المذبح تحت قدميكِ ... تبعثرت الحروف ... تناثرت المعاني ... 

نبع من تحت قدميكِ تيار سرى على أرضية المذبح مخترقاً طريقه نحو الأبدية ... تيار مكون من عشرات الحروف ... مئات الكلمات ... آلاف الجُمل ... ملايين الأحاسيس ... هذا التيار خلق نهر من المشاعر ... 

مشاعر لا متناهية .. أزلية .. أبدية ... 

نهر يغترف من روحي بداياته .. يجرف ذراتي في مساراته، حاملاً كينونتي في تياراته مخترقاً ديمومة الزمن، متجهاً بي نحو المصب المكون من راحتي كفيكِ .. 

كفاكِ اللذان كُتب عليّ أن تنتهي رحلتي فيهما لتبدأ من جديد تحت قدميكِ .. 

رحلة سيزيف الأبدية الخالدة بين البشر لها وجه آخر لن يعرفه سواي ... 

 و إياكِ.

Saturday, March 9, 2024

المسافر الوحيد

بدأ الظلام يُرخي سدوله آذناً للضياء أن يُلَملِم خيوطه مُنسحباً، تاركاً خلفه ظلاً طويلاً   للمسافر الوحيد في الصحراء الجليدية الممتدة على مدى البصر و كأنها احتوت الوجود كله بصقيعها ....

تذكَّر المُسافر رحلته الطويلة و زاده القليل و استرجع ذكرى أول و آخر دفء حصل عليه منذ بدأ رحلته الباردة، و كيف أن هذا الدفء منحه طاقة داخلية استطاعت أن تمنحه وقت طويل قطع به المزيد من المساحات البيضاء المتجمدة ...

و الآن و قد نضبت كل  ذرة دفء احتوتها خلايا المُسافر الوحيد و قد تثاقلت مشيته و انسحبت ألوان الحياة من بشرته ثم تهاوت قدماه ليسقط أرضاً ثم يتحامل ليُسند ظهره على كثيب ثلجي يُمعِن في إشعاره بالصقيع الذي يسحق عظامه، يستطيع أن يرى من خلال عينين ضبابيتين شبح يتحرك بخفة من بعيد مُقترباً منه في خطوات بطيئة واثقة ..

ابتسم في وهن و قد تجمدت شفتاه و هو يرمق النمر الجليدي الأبيض بخطوطه السوداء التي تسبح في بحر فراؤه الأبيض، و عيناه الزرقاوان النابضتان بالقوة يشعر أنه يغوص فيهما و كأنهما تأسران عينيه و تسحبانهما تلقائهما ليشعر بأنه يألف هذا النمر القوي الوحيد و كأنه شاركه جزء من كيانه وقت أن غاص بناظريه في أعماق عيني النمر الزرقاوين ..

اقترب النمر في تؤدة منه إلى أن لفحت أنفاسه الباردة وجه المسافر المتجمد و تلاقت الأعين، و كأن حديث عميق سريع قد تم بين العيون فقد تكور النمر على نفسه بجانب الرجل دافعاً برأسه و كتفيه بين ذراعي المسافر الذي ما أن استشعر دفء الفراء و قرقرة الأنفاس حتى تراخى ذراعاه على الفراء الكثيف و مالت رأسه لتتلقاها الجبهة العريضة و خفتت الأنفاس و تثاقلت الجفون و في آخر لمحة ضياء التمست طريقها إلى العينين الذابلتين رأى يد النمر تمتد إلى صدره و تضغط برفق على موضع قلبه و هُيء اليه أنه يسمع صوت ببري رخيم من بين شفتي النمر قائلاً:

الآن آن لك أن تستريح.