Tuesday, November 11, 2014

استثناء


(1)

بينما تجلس في انتظار قطارها فائق السرعة كي ينقلها من مدينتها الصاخبة الفاتنة المطلة على البحر إلى تلك المدينة الهادئة الشبه صحراوية المتجهة إليها في هذا اليوم المُميز و الذي تحمل ذكراه عبق سنوات طويلة مضت منذ أن تم تعيين هذا اليوم بالذات ليكون نقطة اللقاء الإلزامية و لو بطريقة افتراضية، إذ فوجئت بحجابها يتطاير مع تيار هواء قوي إثر مرور قطار لطالما أبهرها شكله و هو يمرق كالبرق أمامها بلونه الرمادي الرائق بينما أعلى و أسفل عرباته يمتزج اللون الأسود بلون أبيض بسيط يتخلله مما يجعلها ترى فيه كل مرة شريط سينما قديم كالذي كانت تراه في الأفلام الغير ملونة قديماً و هي صغيرة ...

و بينما تُلملم أطراف حجابها المتطاير كانت لا تستطيع ان تُبعد عينيها عن شريط السينما الجميل الذي يمرق أمامها حاملاً وجوه الركاب كمشاهد سريعة متتالية متباينة المشاعر و الأحاسيس ... بل الحكايات و الأقاصيص ..

و جائت اللحظة التي تحبها دوماً .. لحظة وقوف القطار و هي تتمنى أن تكون أمام نافذة من نوافذ القطار – شريط السينما- لتنظر عبر الزجاج إلى حكاية جديدة أو أُقصوصة تستشفها من الوجه وراء النافذة، و توقف القطار بالفعل و رنت بعينيها صوب النافذة و لكنها لم تر وجه خلف الزجاج الذي اُسدلت من وراءه الستارة الداكنة، بل وجدت عينيها تحدقان بها ... 

لا ... لا ... لا يُمكن !!

إنها ... إنها عيناه هو و ليست عينيها ... عيناه هو من تتأملانها ... عيناه هو من تنظران اليها، و في الحال وجدت أن الكون كله قد توقف .. لقد ثبت المشهد بأكمله أمام ناظريها .. القطار .. السحاب .. الطيور .. حتى الهواء و ورق الشجر ...

لقد توقف الزمن بأكمله أمام هذه اللحظة .. أمام هذه اللمحة .. أمام هذه النظرة ..
هذه النظرة هي ذاتها التي رأتها في عينيه يوم التقته لأول مرة في مناسبة سعيدة مشتركة ... تذكرت على الفور كيف أن لحظة التقاء عينيهما وقتها كانت لحظة مُصافحة و ليست لحظة تعارف ..

لقد تصارحا بعدها بفترة و اندهش كل منهما كيف تطابق إحساسهما عن هذه اللحظة لهذا الحد ... كلاهما أكد ان لحظة التقاء العينين كانت لحظة شعر كل منهما فيها انه وجد نصف .... 

لا .. ليس نصفه الاخر .. بل نصف روحه الآخر!

لقد كانت لحظة حنين من كل نصف من الروح المُشتركة بينهما إلى نصفه الآخر .. لقد شعرت لحظتها و لأول مرة أن روحها التي بين أضلعها تتململ ... تشعر بالنقص .. بالحنين .. تعجبت و هي من كانت على الدوام تُحِس بالاكتمال الذاتي و ان روحها دوماً مطمئنة .. لقد أحست و لأول مرة أن روحها تشعر بالبرد! 

نعم روحها و ليس جسدها .. روحها ترتجف من البرد و تهفو نحوه باحثة عن الدفء .. و هي تُقاوم هذا الإحساس العجيب الذي لم يظهر على مُحّياها و إن كان يمزقها من الداخل، بحثت في عينيه عن شيء فوجدت أشياء ... وجدت في عينيه روحه و هي تتقافز بجنون في حدقتيه ... وجدت أنفاسه تحمل عبق مُخدِّر تسلل لحناياها و أضعف مقاومتها .. و جدت على شفتيه ابتسامة جعلت ثغرها يفتر عن أجمل بسمة ارتسمت على ملامحها القسيمة ..

لم تدر كم استغرقت هذه النظرة .. و لكن ما تأكدت منه وقت أن ابتعدت العيون عن بعضها أنها بداية ... و أنها لن تعود كما كانت من قبل ..
أبداً.
(2)

أمام النظرة التي طالعتها من تلك العينين اللتان تُطلان عليها من النافذة و التي أعادتها لعالم آخر حلقت فيه يوماً بجناحين منسوجين بخيوط من ثنايا روح التئمت بعد انفصال طويل، وجدت نفسها تسترجع ذكريات قديمة جداً ... و لكن و يا للعجب كانت الصور تترى أمام ناظريها متجسدة و مُكوّنة لمشاهد و أحداث بكامل تفاصيلها و كأنها حدثت بالأمس ... 

لا ... لم يسير الأمر كما ورد بأذهانكم الآن ...

بل سار في نهج مختلف تماماً و مر بطريق طويل لم تدر هي نفسها كيف و لِمَ ؟؟

التقيا بعد ذلك عدة مرات في مناسبات مُشتركة، و كان التعارف ناعماً .. اشتركا في العديد من المناقشات و اندهشت من توافق الأفكار .. بل لو شاءت الدقة لقالت "تكامل" الأفكار .. كان وحده يستطيع تحفيز عقلها و استفزاز خلاياه للقيام بكل ما تستطيع لمناضحة فكره أو للسير معه على نفس الخط ... 

كانت تستمتع بنعومة الاحتكاك العقلي بينهما و الذي يُسفر دوماً عن نوع عجيب من رد الفعل لديها ... فلا يُهم من فيهما انتصر لرأيه أو من منهما بدأ الجملة ليُتمها الاخر و لا من منهما اندهش من الإعجاب بنفس الأشياء و الاهتمام بنفس الهوايات بل الأشخاص اللذان يقرآن لهما أو ما يُفضلانه من مأكولات أو أماكن للسفر أو مزارات سياحية من مختلف الحُقب الزمنية التي مرت على البلاد مما جعلها في عيون المُدققين ثروة أثرية فكرية تاريخية حضارية تُغذي روح من يغوص بداخلها و يكتشف آثارها بنفسه .. و كلما غاص أكثر كلما استخرج المزيد و المزيد.

ابتسمت و هي تتذكر أن نفس هذه الكلمات سمعتها منه و هو يتكلم بشغف عن مدينتها التي اشتهرت بتنوع ثقافاتها و تعدد أوجهها الحضارية و التي اعترف لها لاحقاً بانه كان يقصدها هي بكل ما قال .. 

فهو قد رأى أنها تجسيد حي لمدينتها في أنقى حالات التجسد .. و ان سحرها في عينيه لم يكن –فقط- لما شعر به وقت أن التقت العيون أول مرة .. بل لأنه استمع في خلفية صوتها لهدير موج البحر بينما كانت هبات النسيم المُشبع باليود تداعب كيانه و هي تتحدث ... كان حفيف أوراق الشجر و زقزقة العصافير في خلفية إضاءة الشمس للآثار العتيقة التي تنطق بعبق السنين و علامات التاريخ في رنة ضحكتها المُشرقة ..

تبسمت روحها في سعادة و هي تتذكر قوله لها بأنه لطالما تردد في مصارحتها لأنه كان لا يراها إلا كنجوم السماء المضيئة، على قدر بهائها و صفائها و نقائها على قدر استحالة الوصول إليها .. و كيف يصل إلى نجمة باهرة الضياء تُنير لكل ما حولها؟؟
كيف يَمُد يديه ليلمس ثغر من ثغور السماء بين يديه الفانيتين ؟؟

استمرت ابتسامتها المُشرقة في الاتساع و هي تتذكر قوله انه لطالما كان يرى فيها كل جميل فيما حولها .. و كأنها تأخذ من كل شيء أجمل ما فيه ... لا ليس ذلك .. بل كل شيء يعطيها أجمل ما فيه لأنه أجمل و هو فيها .. كان لا يسأم من التغني بجمالها و فتنتها اللذين كانا دوماً يتزايدان مع الوقت و يتألقان مع الزمن ..كانت الموجودات جميعها تتبارى في تقديم أرقى و أنعم و أرق ما بها إليها حتى يتزين كل هذا باحتضانها له ..

طاف بخلدها وقت أن قالت له اسم أكثر معالم مدينتها حباً في قلبها و تعلقاً في روحها أن همس في أذنها بأنها هي أحب معالم مدينتها اليه ..

(3)

تذكرت وقت أن سألته: ألن تمل مني ؟؟ و كانت إجابته: أتمنى أن نشيب سوياً.
قالت له: بل أعني أن تسأم مني و لا تحبني كما تفعل الآن .. فأشرقت عينيه و هو يجيبها: كيف و أنا اُخطط أن استند على ذراعك و أنا شيخ هرِم؟؟

تنمرت هاتفة: ما علاقة كل هذا بسؤالي؟؟ ... 

مال نحوها حتى ملأ عبيرها رئتيه و حتى رأى في عينيها صراع كل مكونات الجمال المُختزن بداخل روحها و الذي تتنازع مفرداته للظهور على سطحها لتزداد هذه المُكونات بهاء و تألقا و هو يجيبها متأملاً أمواج عينيها الثائرة المتلاطمة: 

لأن روحي لم تعد ملكي .... لقد استوليتِ عليها يوم أن رأيتك أول مرة .. لم أعد أشعر بالأمان إلا و أنا بجانبك ... لم أعد أشعر بالدفء إلا معكِ .. لا تهدأ روحي إلا في وجودك ... لا أشعر بها تتواثب بين جانبيّ انتشاءً إلا في حضورك ... فكيف لي أن أملك من امري شيئاً بعد ذلك؟؟

تدللت قائلة: و لكنك لن ترى مني شعرة واحدة بيضاء .. ستشيب وحدك. و في سرها كانت تصرخ بلا صوت: و كيف لي أن اشيب و انا أشعر بشبابي يتجدد كلما نظرت اليك ؟؟ ... كيف لي أن أشيب بينما أنت نبع شبابي و ينبوع روحي أُحلق حوله في كل وقت فأتزود منه بآلاف السنوات من الشباب المتجدد؟؟

تعجبت كيف لا تصارحه بهذا و هي التي في أمس الحاجة لأن تُشعره بما يعتمل في جوانحها من مشاعر تُهز أعماقها حتى النخاع !! 

أخذت الذكريات تتداعى و القطار ينهب الطريق سريعاً لتظهر ملامح المدينة الهادئة أخيراً لتجد نفسها تبتسم و هي تتذكر كيف اتفقا على أن يهجر كل منهما مدينته عند زواجهما و أن يستقرا سوياً هنا، في هذه المدينة و هذا الحي بالذات الذي يُمثِّل لهما ما تبقى من عبق الثلاثينيات و الأربعينيات من القرن العشرين و اللذان طالما تمنيا الحياة فيهما بما يحملانه من هدوء و جمال لمدن و أشجار و منازل جميلة من طابقين أو ثلاثة على الأكثر و حسن أخلاق و مُعاملات بين الناس و بعضهم.

كادت تضحك و هي تستدعي من ذاكرتها اتفاقهما أن يكون منزلهما في هذا الحي الهادئ المزدان بالأشجار من دورين اثنين فقط و أن تكون شرفاته بها تعريشات خشبية و أن يحوي المنزل من العبق الخشبي ما يمنح لهذا العش الهادئ الروح التي تمنياها سوياً.

أخذت تحث الخطى سائرة إلى مكان المنزل و لم تتقبل أن تسعى اليه إلا على قدميها من فرط شوقها اليه .. أرادت أن تنقل قدماها اليها نبض السعي لمكان لطالما كان حلمها السكن اليه فيه و أن يضمهما إلى الأبد، بعيداً عن ضوضاء البشر.

أتت إلى خاطرها ذكرى كانت لا تمل من تكرارها معه قائلة له: ستظل تحبني؟ فيجيبها: إلى الأبد ..

و تسأله: هل ستحب يوماً امرأة غيري؟ فيجيبها مدهوشاً: و هل هناك غيرك؟؟
فتقول له حانقة: و ماذا عن النساء اللاتي يتحلقن حولك دوماً ؟؟ ماذا عمَّن يحاولن الاقتراب منك على الدوام و كأنك تجذبهن إليك عامداً !!

فيحيطها بذراعيه في حنان و ينظر الى عينيها العميقتين في نظرة وَجْد تعلم صدقها على الدوام قائلاً: صدقيني .. لا أراهن .. لم تتركي لعينيّ مساحة أنظر بها خارجك، لقد ملأتِ عليَّ ناظريَّ حتى بت أرى الدنيا داخل حدودك .. صرت أرى بعينيكِ و أسمع بأذنيك و لا أستسيغ إلا ما يمر إليّ عبرك .. أفلا تطمئنين ؟!

فتضع رأسها في صدره مسندة أذنها إلى قلبه هامسة في أذنه: أحب أن اسمع وجيب قلبك و أنا أقولها لك .. أحبك .. و أغار عليك حتى من نفسي التي بين جنبيّ.

 (4)

اقتربت في مشيها من المكان ... اضطرب قلبها و هي تحث الخطى .. اليه .
لكم تشتاق له .. كم تهفو روحها لنظره من عينيه .. للمسة من يديه .. لرائحة عطره .. لابتسامته .. لكم اشتاقت لكل تفاصيله!

وصلت قبل الغروب بقليل لتجده واقفاً شامخاً كما اعتادته .. يكاد يبرق ضياء و بهاء، انحدرت دمعتي حنين و اشتياق و هي تجد في مشيتها لتصل اليه قبل أن تغرب الشمس ..
ما أن وصلت في الوقت الذي كانت الشمس فيه تبث آخر ما لديها من ضياء إلى الدنيا قبل أن تغرب صابغة الوجود بلون الفراق حتى مدت يدها اليه ... 

لتزيح الغبار عن اللوحة ... 

لوحة شاهد القبر التي علاها الغبار منذ زارته آخر مرة.

قالت له في أنين و هي تتحسس الشاهد : اشتقت اليك .. 

لِمَ تُصِّر السنون أن تتوالى عليّ لتجبرني أن أتذكر في كل مرة كم مر عليّ في الدنيا بدونك؟؟

لِمَ يمر الزمن تاركاً اياي أعاني لوعة الفراق و يأبى أن تتقارب الأماكن بيننا؟؟
قلبي لم يعد يحتمل الحياة في عالم بلونين متباينين !! 

افتقدت الألوان في عالمي مذ فقدتك و أبت الموجودات إلا الظهور بالأبيض و الأسود.
ثم همست باكية و هي تمسح على الشاهد بكل ما يعتمل في قلبها من شوق: بخلت عليّ الحياة بأن نبني بيتنا في المكان الذي اخترناه بعد عناء و الذي ما أن رأيناه حتى تيقنا أنه مكاننا تماماً كما تخيلناه، و أبت إلا أن تُدفن انت فيه حتى يكون مثواك للأبد.

ثم أكملت إزاحة كل الغبار من على الشاهد و نظمت المكان حوله بمنتهى الهمة على الرغم من أثر السنون عليها و التي لم تزدها إلا بهاء و تألقاً و كأن حولها هالة تشع ضياء على كل ما حولها و تحفظ عليها رونقها كما هو.

و قبل أن تغادر مالت للمرة الأخيرة على شاهد القبر قائلة: موعدنا القادم كما هو لن يتغير .. في ذكرانا التي اخترناها لأنفسنا لتكون يومنا الخاص.

ثم ربتت على القبر و هي تبتسم ابتسامة عريضة هامسة: لقد منحتني استثناء خاص دون بنات حواء على مر الزمان ..

لقد منحتني تلك المشاعر التي خُطَّت لأجلها الأساطير و تُكتَب لها الروايات.

No comments: