Monday, September 3, 2007

ربيع العمر

كنت في طريقي لإنجاز مهمة خاصة بالعمل واستقللت مترو الأنفاق، وفي طريقي للرصيف رأيت مشهداً أثار شجون عديدة بداخلي، فقد شاهدت رجل في الستينات أو السبعينات من عمره ... أي في المرحلة العمرية المصطلح على تسميتها بخريف العمر رأيته وهو يمشي ببطء متكئا على عكازه و يسير ببطء شديد ينبئ عن حالته الصحية الحالية وهو يحمل حقيبة بلاستيكية منتفخة تقول بأنه كان يشتري بعض حوائجه.

و لفت انتباهي نظرة الإصرار والتحدي في عينيه والتي تشف عن عزيمة قوية يتمتع بها هذا الرجل، وأكد لي هذا الشعور مشيته التي يحاول فيها السير بظهر مفرود وقامة مشدودة وتساءلت بيني وبين نفسي عن السبب الذي يجعله وهو في حالته هذه أن يقطع مشوار بالتأكيد طويل ويصعب عليه إنجازه مع مشيته شديدة البطء.

فهو من ناحية بسيط المظهر مما يدل على انعدام الفرصة في توفير من يعفيه من مشقة عناء إنجاز مشواره و أيضا سنه الذي يرجح أن يكون أبناؤه في حالة وجودهم مشغولون بحياتهم الخاصة وغير متفرغين لرعايته والاعتناء بشئونه ومن ناحية أخرى استقلاله لمترو الأنفاق مما يجعل الاحتمال قوي بأنه يقطع مشوار طويل يحتاج لهذه الوسيلة لإنجازه.

أثار هذا المشهد بداخلي بعض الأفكار حول هذه المرحلة وما يحتاجه هؤلاء المسنين من رعاية وتوفير سبل مناسبة لهم في قضاء حوائجهم، فمثلا ارتفاع بردورات الأرصفة والتي تمثل عذاب مقيم لهم عند الصعود أو الهبوط من على الرصيف، أيضا ارتفاع درجات السلالم التي ترهق الصحيح والعفي فما بالنا بهؤلاء المسنين.

الأمثلة عديدة ولكن الطامة الكبرى هي أسلوب تعامل الناس معهم كأنهم عالة على المجتمع أو كائنات غريبة لا تستحق منا المعاملة اللائقة لأناس أفنوا حياتهم وصحتهم ليربوا من يهملوهم ويحتقروهم في السن الذي يتوجب أن يتلقوا فيه جائزة التقدير والإجلال والراحة بعد رحلة العمر الطويلة.

فتجدهم في وسائل الموصلات واقفين بينما شباب في كامل صحتهم يجلسون ولا يكلفون خواطرهم حتى بالقيام لهم ومحاولة إجلاسهم، على العكس .... قد يجدون أنفسهم محل تندر و سخرية من بعض الناس لعجزهم عن موازنة أنفسهم أو لبطئهم في الصعود أو الهبوط من الحافلة فيلقي عليهم الناس باللوم للتأخر عن مواعيدهم الثمينة.

الحق أننا نحتاج لوقفة ولمراجعة أنفسنا لنعيد قيم دينية أمرنا بها وأعراف اجتماعية نشأنا عليها ترسخ قيمة تقدير الكبير والعطف عليه في مرحلة هو أول المتضررين منها بسبب ما يعانيه فيها، فمنهم من يصر مثلا على عدم الجلوس عند قيام أحد لهم من باب عزة النفس والشعور بأنهم لا يزالون (بصحتهم)، ومنهم من تجد نظرة ذليلة في عينيه لإحساسه بالعجز واحتياجه لمساعدة الآخرين.

ومنهم من يحاول الإثبات لنفسه قبل الآخرين بأنه لا يزال كما كان والرجل الذي تحدثت عنه خير مثال على هذه النوعية، وهناك نوعية أخرى رأيت نموذج لها قريبا وهو رجل مسن يحمل حقيبتين بلاستيكيتين ثقيلتين لأنه يحمل فيهما مشتريات المنزل لفترة طويلة ويظهر ذلك بسبب كثرة المعلبات بالحقيبتين.

هذا الرجل أرهق من حمل الحقائب وأنزلهما أرضا ليرتاح بعض الوقت ... ثم حمل حقيبة وكان يحاول الإنحناء بصعوبة ليلتقط الأخرى وسط عدم مبالاة المارة ... وعندما حملتها له وناولته إياها أخذ يشكرني ويمطرني بالدعوات وكأني أسديت إليه معروف ضخم. وعلى قدر خجلي من كثرة دعواته وشكره على قدر اندهاشي من رد فعله لأنه يشي بعدم توقعه بأن يمد أحد له يد المساعدة وقد آلمني هذا الشعور بشدة لإحساسي بمدى اللامبالاة التي سادت في مجتمعنا.

موقف ثالث أثر في بشدة وآلمني أنني لم أستطع مد يد المساعدة فيه، حيث كنت مستقلا السيارة في شارع جانبي بين شارعي الهرم وفيصل ومر بجانبي رجل مسن محني الظهر ويحمل حقيبة بها بعض مستلزمات منزلية وطلب مني توصيله لآخر الشارع ولكن للأسف كان طريقي مختلف وكان الشارع مزدحم للغاية بالسيارات فاعتذرت له عن توصيله ولكن تأنيب الضمير لا يزال يلازمني حتى الآن.

الحقيقة أننا لو نظرنا لأوضاع المسنين بنظرة موضوعية لوجدنا أنهم يواجهون الحياة في هذه المرحلة الحساسة من أعمارهم بطريقة لا تتفق وما يجب على المجتمع تقديمه لهم بعد كل ما قدموه في حياتهم .... فمن الإنخفاض المخيف في دخولهم بعد الإحالة على المعاش مما يخفض تلقائيا من مستوى معيشتهم مع أنهم يحتاجون بشدة لكل قرش كانوا يحصلون عليه نظرا لأمراض الشيخوخة التي تداهمهم و التي غالبا ما تلازمهم ما بقى لهم من عمر وتكاليف العلاج والأدوية التي أحيانا تكلف أكثر من المعاش بأكمله.

هذا غير المعاملة الغير ملائمة التي يتلقونها ومن أبسط أوجهها عدم تجهيز الأرصفة ومداخل الأبنية و وسائل المواصلات بما يتلائم مع قدراتهم الصحية الحالية.

أتذكر موقفا لا ينمحي من ذاكرتي لمسنة كانت تحاول الصعود على رصيف مرتفع ولم تستطع مما جعلها تحبو على يديها وقدميها كي تصعد عليه.

موقف أخر لمسنة وكانت رقة الحال بادية عليها قابلتها في مصر الجديدة بشارع الخليفة المأمون وكانت قادمة من القصر الجمهوري حيث حاولت مقابلة الرئيس لتحاول معرفة مصير ابنها المعتقل منذ فترة ولا تعلم عنه شئ، وبالطبع لم تتمكن من مقابلة أي مسئول بالقصر الجمهوري وسارت على قدميها حتى شارع الخليفة المأمون وكان منزلها في مكان بعيد للغاية عن مصر الجديدة و ما جعلني أعرف قصتها هو أنني وجدتها تبكي بالشارع بحرقة لعدم قدرتها على عبور الطريق، و قد رفضت أي مساعدة بخلاف أن أعينها على عبور الطريق و قد كانت تهمهم وسط بكائها بعدم قدرتها على القدوم مرة أخرى لصعوبة المشوار عليها صحيا و لعدم توافر القدرة المالية لديها لتكرار ذلك المشوار مرة أخرى.

الحديث حول هذا الموضوع يطول و يثير شجون كثيرة ... وما حاولت فعله في هذا الموضوع هو إلقاء حجر في المياة الراكدة لعله يلفت الإنتباه حول فئة من هذا المجتمع يتوجب علينا أن نكرمهم ونوفر لهم سبل الراحة و أن نخفض لهم جناح الذل من الرحمة فهم في النهاية آبائنا و أمهاتنا اللذين أفنوا أعمارهم لتنشئتنا وتربيتنا ولتكون هذه الفترة من أعمارهم هي فترة لا يشعرون فيها بأنهم في خريف العمر، بل هو الربيع .... ربيع العمر.

6 comments:

Anonymous said...

جميلة ملاحظاتك اخي

تذكرني بامرأة مسنه تسكن في نهاية شارعنا
هذه السيدة العجوز الآن
أذكرها عندما كنت أنا طفله
كم كانت تملأوها النضارة و الحيويه والنشاط

عندما أمر عليها الآن وهي جالسة أمام
منزلها وحيدة بعد أن تزوج أبنائهاوألقي عليها السلام
فترد على بصوت ضعيف
تمر امامي السنوات
وأتساءل
ترى ان عشت
فهل سأصبح مثلها

والحقيقه هذا شأننا جميعا
فالشباب سرعان ما ينقضى
ونصبح مثل هؤلاء الذين ذكرتهم أخي
ولو كل واحد منا فكر بأنه قد يكون هو هذا المسن
فعامله بما يحب أن يتعامل به حين يكبر
لأنتهت كل المشكلات
عفوا ع الأطاله
ودمت بحفظ الله

nora said...

المسنين
للاسف مشقادرة اقول حاجة لان الكلام كتيير جدا و مش قادرة اقول المفروض نعتبرهم ابائنا و امهاتنا لان فى وقتنا ما اكثر شكوى الاباء و الامهات و لذلك لابد ان نعتبرهم انفسنا يالغد

اشكرك ايضا لملاحظةذلك لان اكثرنا لا ينظر لهموم الغير حتى و ان كان مسن

L.G. said...

كبار السن بركة
لا أعتقد أن مجتمعنا وصل لمستوى أن يعتبرهم عالة لا على العكس أرى سائق الميني باص يتوقف للمسن وينتظره حتى يطمئن عليه
ومازال الناس يتسابقون ليساعدوهم في عبور الشارع
مرة ساعدت سيدة في حمل أشياء لها حتى منزلها وولادها في البيت مطنشين !! مشكلة تربية
عندما اساعد سيدة أضع العمل الصالح في الخزانة عند ربنا لذا أجد من يساعد والدتي دوما اذا دعت الحاجة لذلك في عدم وجودي
المواصلات
البنات أرجل من الرجالة بيقوموا للعواجيز والرجالة لأ
مشكلة تربية
دموع المسنين
أقصى دموع
ولكن الخير في أمتنا فلا تقلق

Omar El-Tahan said...

anonymous:

لا أجد ما أرد به عليك ... ففعلاً لو فكر كل منا بأن مصيره إلى هذا الذي يراه أمامه ويعامله باستخفاف لتغير الأمر

الإنسان بطبعهقصير النظر ضعيف الذاكرة مغرور بنفسه وحينما يصل لما لم يعمل له حساب يتعجب من أفعال الناس معه ولا يدري أنه يحصد ما سبق وأن زرعه بيده.

Omar El-Tahan said...

nora:

من يفترض بهم النظر لهؤلاء المسنين بعين الرحمة والشفقة والإعتبار لا يرون غير أنفسهم و مراكز القوى التي تساندهم وتستفيد من وجودهم في مراكزهم ... أما الناس العادية فللأسف ينشئون على دراما المفسديون التي تعزز السخرية والتندر بكبار السن وعدم توقيرهم.

Omar El-Tahan said...

l.g:

ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ... كلام سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم تسليم.

نحن ابتعدنا عن ديننا ... وحتى عن أخلاقيات مجتمعنا وعاداته القديمة التي كانت لها اعتبارات خاصة ... وصحيح أن المجتمع لا يراهم عالة ولكن حكام المجتمع يرونهم كذلك ... فهم آخر فئات المهمشين و أبعد الناس عن بحبوحة العيش بعدما أفنوا أعمارهم في أعمالهم وخدموا بلدهم بشكل أو بآخر