واجه العديد منا مواقف متعددة مع المتسولين سواء كان التسول مباشر أو عن طريق بيع أشياء بسيطة كالمناديل الورقية مع قبولهم لأي نقود بدون شراء مناديل. وهناك موقف طريف عايشته بنفسي عندما كنت أنتظر أحد أصدقائي أمام أحد مطاعم الوجبات السريعة بوسط المدينة حيث كانت إحدى النساء واقفة بجانب الباب تستجدي الناس أن يشتروا لها وجبة من المطعم وكانت ترفض أخذ نقود وتطلب من المعطي أن يشتري لها وجبة.
الموقف على طرافته مستفز حيث أنها ليست في وضع يسمح لها بالإشتراط، بل وتحديد نوع الطعام ومكانه أيضا. ولكن الموقف الذي أثار اندهاشي بالفعل هو أم و طفليها (صبي وفتاة) واللذان لايتعدى عمر أكبرهما )الفتاة(الثانية عشرة وقد كانوا يجلسون قرب باب المطعم أيضا مفترشين الأرض ويبيعون مناديل ورقية وكل فترة ترسل الأم أحد الأطفال ليسأل الواقفين إن كانوا يريدون شراء مناديل منهم.
وعندما جائت الفتاة تسألني لم أكن أحتاج لمناديل ولكني أخرجت لها مبلغ وحاولت إعطائها إياه ولكني فوجئت برفضها أخذ النقود واشترطت أن آخذ مناديل مقابل النقود وقد اندهشت وأعجبت في الوقت ذاته بموقفها وسألتها عن السبب فأجابتني أنها تبيع المناديل ولكنها لا تتسول من الناس و قررت أن اشتري منها إعجابا بموقفها وأعطيتها مبلغ أكثر من ثمن علبة المناديل لأفاجأ للمرة الثانية برفضها أن تأخذ أي مبلغ زائد عن ثمن العبوة.
وهذا الموقف الفريد من نوعه أثار العديد من التساؤلات بداخلي حول هذه الأم وأبنائها اللذين يتكسبون رزقهم بهذه الطريقة ويأبون أن يأخذوا أكثر من ثمن سلعتهم ذات السعر القليل، وبساطة مظهرهم تدل على حاجتهم لكل قرش يحصلون عليه إلا أنهم يتعاملون بعزة نفس تثير الإعجاب لأنهم لا يقبلون إلا ما يرونه مقابل بضاعتهم، وشخصيا أرى أن هذه الأم على بساطة حالها فهي تعلم كل الناس درسا في القيم والأخلاق وهي من يحتاج لكل قرش زائد إلا أنها تأبى الصدقة أو الإحسان وتكتفي بالرزق القليل و الحلال على عكس الكثيرين ممن يستحلون أي مال يستطيعون الحصول عليه بغض النظر عن استحقاقهم له أو كونه حلال أم لا.
ولو كان الأمر بيدي لكرمت هذه الأم واعتبرتها أم مثالية لأنها تنشىء أبنائها وتربيهم على قيم لا يعلمها الكثيرون لأبنائهم، وتعففها عن قبول الصدقة أو الإحسان يجعلني أتذكر الآية الكريمة التي تتحدث عن هذه النوعية من الناس )بسم الله الرحمن الرحيم (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، لا يسألون الناس إلحافا) صدق الله العظيم(.
وهناك موقف آخر مختلف عن هذا ولكنه يندرج تحت مسمى التعفف أيضا و يتمثل في رجل كنت أراه منذ بعض السنوات في شارع الألفي في وسط المدينة وكان مظهره يدل على أنه موظف و تعامله ينم عن أصل طيب و قيم أخلاقيه نشأ عليها، كان هذا الرجل يتجول في الشارع حاملا صينيه بها عبوات شاي مغلفة وأكواب بلاستيكية ذات الإستخدام الواحد و سكرية و يحمل في يده الأخرى تورمس مياة ساخنة و كان يبيع الشاي لمن يطلبه وبنصف سعر نفس الكوب لدى المقاهي.
في البداية تعجبت من مظهره وعدم مناداته على ما يبيعه فأثار فضولي للشراء منه لمحاولة استشفاف طبيعته لأفاجأ بإنسان محترم جدا ومهذب لأقصى حد.
وما استطعت أن أصل إليه بتفكيري أنه موظف حكومي ولا يكفيه مرتبه بطبيعة الحال واختار أن يزيد من دخله بهذه الطريقة، وشخصيا كنت اشتري منه دائما شاي كلما ذهبت لهذه المنطقة بل و أبحث عنه لو لم أجده فقد أعجبتني عزة نفسه و احترامه لذاته ومن يتعامل معه حيث كانت عبارات من نوعية اتفضل حضرتك) و (بألف هنا وعافية) و (أشكرك) هي السائدة في كلامه(.
هذه نماذج بسيطة من نوعيات موجودة بمجتمعنا و تستحق منا كل تقدير واحترام لإختيارهم الحياة بشرف وأمانة وعزة نفس وسط كل الضغوط والظروف المعاكسة التي تواجه الجميع الآن. وما أحاول عمله بموضوعي هذا هو إرسال تحية صادقة لهذه النوعية من البشر ومحاولة لفت الإنتباه لأن هناك من الناس من يأبى إلا أن يكون رزقه بالحلال وأن مجتمعنا لا تزال به نوعيات من البشر تقول بأن الخير لا يزال موجودا بهذا البلد. بلدنا حلوة ولكننا تعودنا على رؤية القبح من حولنا فأصبحنا لا نرى الجمال من حولنا، فلنبحث عن مواطن الجمال وسنجدها .... فقط ننحي النظارة السوداء التي نرى بها بلدنا جانبا على الأقل لنرى الأشياء التي تجعلنا نصبر عما نحن فيه ويبعث فينا الأمل في غد أفضل.