من المواضيع الشائكة و التي ترددت في الكلام عنها فترة طويلة لحساسيتها هي مسألة احتكار الصواب بالنسبة لمن يملكون منظومة فكرية خاصة بهم وصلوا اليها بعد قراءات و لم يتعلموا على يد خبراء في المجال "مع القراءة".
سواء ناس عادية يحبون القراءة أو طلاب علم شرعي أو حتى متخصصين في علوم معينة بنوا قناعاتهم و أفكارهم على قراءات و تجارب ذاتية فقط.
و منهم من جرب التتلمذ على يد خبراء و لكن وجد فكره لا يتفق معهم ففضل الإستقلال بفكره و نفسه و عدم استكمال المشوار.
مع أن و إن اختلفت النتائج و لكن المبادئ واحدة، و تربية طريقة التفكير و النظر في الأمور و كيفية تقبل و استيعاب الآخرين و ان اختلفوا مهم جداً لتكوين الشخصية الموسوعية التي يستطيع الإعتماد عليها و الثقة في حكمها على الأمور و الأشخاص و العوارض.
الإمام أبو حنيفة كان أفضل تلاميذه أبو يوسف و قد مدحه الإمام في غيابه فوصل لأبي يوسف المديح و بدافع العُجب استقل عن حلقة الإمام بحلقة علم منفصلة.
عندما بلغ الإمام الموقف ارسل بمسألة فقهية قوية مع أحد الأفراد و أبلغه أن يخبره بأنه مخطئ في الإجابتين اللتين سيخبره بهما و قد فعل.
شعر أبو يوسف بأن الإمام وراء هذه المسألة فذهب اليه و سأله فوضح له انه لابد من توافر شرط معين في كلا الحالتين لتكون الإجابة صحيحة و لا يصلح تعميم الإجابة بإطلاق.
وقتها ادرك أبو يوسف الرسالة و رجع إلى حلقة علم الإمام.
الشافعي تتلمذ على يد مالك و احمد تتلمذ على يد الشافعي و لم يمنع ذلك أن يستقل كل منهم بمذهبه الفقهي عن أستاذه و لكن بعد ان أخذ عنه العلم و الدب و الفكر الذي يجعله في وضع يتيح له مقام الإجتهاد.
الشافعي مذهبه مختلف عن مذهب أبي حنيفة في نواح فقهية كثيرة و لم يمنعه ذلك أن يقول:
"كل الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه" و قد صدق.
المشكلة مع المدرسة الذاتية في تكوين الفكر أنها صحيح تعطي الكثير من العلم و البيانات و لكنها لا تُعلِّم كيفية ادارتها و لا التعامل مع الفهم المخالف لها.
لا أريد أن يبدو كلامي أنني اتهم "كل" أهل هذه المدرسة بانهم لا يقبلون الآخر .. فالعديدين يقبلون مبدأ الإختلاف و عندهم رحابة صدر أن يناقشوا طويلاً الأفكار، المشكلة الحقيقية أنهم يفعلون ذلك و في مرجعيتهم أنهم على الحق و الصواب و أن المهمة هي إثبات صحة ما وصلوا اليه بدافع القناعة بذلك و ليس الجدال للجدال.
المتعلم/القاريء/المفكر ذاتياً يعيبه الإعتزاز الفائق بما وصل اليه نتيجة المجهود الذي بذله في البحث و القراءة و المقارنة، و هو لا يدرك أنه غالباً دون أن يدرك قد اعتمد منظور واحد و طريقة معينة في التفكير و الإدراك و تغاضى عن غيرها.
هذا الإعتزاز الزائد بالذات يمنع صاحبه أن يكون اكثر شمولية في التفكير و لا يستطيع رؤية أكثر من زاوية للأمر فتصير نظرته ذاتية و بما يتوافق مع هواه و فكره الشخصي.
و عندما يتصدى هذا الشخص لنقاشات علنية أو تكون عنده مساحة للتأثير على الآخرين فيكون من حيث لا يدري مسمار في نعش التنوع الفكري و النظرة الإستيعابية المطلوبة لمن يتصدى للشأن العام و عنده نافذة يعرض فيها أفكاره.
ما يميز التتلمذ المتباين على أساتذة مختلفين و ألا يكون التحصيل العلمي "اياً كان مجاله" ذاتي هو توسيع قماشة التفكير نفسه و التعرض للعديد من وجهات النظر و زوايا الرؤية بحيث يتكامل المنظور عند المتلقي و يخرج بافضل نتيجة من الجميع.
هذا غير التأديب الذي يمارسه المعلم حتى لا ينجرف المتلقي في الذاتية أو منطقة الراحة الفكرية/العاطفية لديه في تكوين شخصيته و هذا ما كان يميز العلماء قديماً في شتى مجالات التخصص .. الموسوعية و الشمولية في العلم و الفكر و الرؤية حتى و إن "بطبيعة الحال" تبنوا أحدها دون الآخرين ... أما حديثاً فقد صار الأمر أنوي و ذاتي بشكل يجعلني اتشكك كثيراً في كل ما يُقال و استمر في البحث و السعي للوصول لمناظير و زوايا أخرى تتيح لي أن أرى الحقيقة كاملة.
كلنا في النهاية يصل إلى ميل تجاه شيء معين عن غيره و لا يوجد كبشر لدينا حياد كامل في كل المجالات.
لكن أن يتقبل الشخص أنه مخطئ في أمر و يستوعب أن غيره عنده نظره أكثر شمولية و زاوية رؤية أعرض تتيح له رؤية الصورة بشكل أفضل فهذا عسير جداً مع أبناء مدرسة التعلم الذاتي.