كنت دائما ما اقرأ أو أسمع عن معرفة السفر التي لاتدوم إلا مدة الطريق ويكون الإنسان فيها على سجيته تماما لتيقنه من أن من يشاركه الحديث ستتوقف علاقته عند التوقف في محطة الوصول مما يعطي إحساس بالأمان من أن كلماته و'فضفضته' لن يترتب عليها أي آثار سلبية عليه وكنت لا أستوعب منطق أن يتحدث الإنسان مع آخر لا يعرفه ويبوح له بأسراره.
ويشاء الله أن أعايش بنفسي هذا الموقف أثناء سفري بين بورسعيد والقاهرة، كانت مع محاسب قانوني تعدى السبعين من عمره و أبناؤه مابين الأربعينات والخمسينات.
والحقيقة أنني استفدت منه أيما استفاده، حيث أن سرده لذكرياته وسيرة حياته لم يكن نمطي كمعظم كبار السن فقد كان له أسلوب مشوق جدا في السرد ويضع خلاصة تجارب حياته في وسط حديثه بطريقه رائعة لا تجعلك تشعر بأن هناك من يلقنك درسا من ناحية ومن الناحية الأخرى كان كلامه مركز وفي صميم الهدف الذي يريد الوصول اليه. وأعتقد أن هذا الرجل كان ذو عقلية متميزة طول عمره حيث أن كلامه مرتب و محدد النقاط ومشوق جدا في الوقت ذاته وهذا الرجل كان أرمل ورفض أن يعيش مع أبناؤه لأسباب لم أستطع إلا الإقتناع بها والموافقة عليها.
الرجل أصر أن يعيش في بورسعيد مسقط رأسه ومكان عمله وحياته مع شريكة عمره الراحلة ويعتمد على نفسه تماما في معيشته، وقد بنى في الثمانينات عمارة فخمة في مدينة نصر يسكن بها أبناؤه كلهم وهم في مراكز متميزة و رغم أن العمارة كبيرة ويمكنه أن يعيش في شقة خالية بها إلا أنه يعترف بأن مراعاة كبير السن ليست بالسهلة وهو يرفض أن يحمل أبناؤه عبء العناية به حتى لا يتسبب في حساسية بينهم وبين زوجاتهم وبين ابنته و زوجها، وهو يقر بأن زوجات أبناؤه وزوج ابنته أناس من أحسن من يمكن أن يناسبهم المرء ولكنه يقول بأنه يجب أن يضع نفسه مكانهم حتى يعرف أن طاقتهم لن تتسع له أبدا مهما كانوا.
و عليه فقد فضل أن يزورهم بنفسه كل فترة في القاهرة ليطمئن عليهم ويطمئنوا عليه ويمضي معهم بعض الأيام التي يدرس جيدا كيف تترك فيهم كلهم انطباع جيد متمنين تكرارها حتى تكون صورته لديهم على الدوام في أفضل أحوالها.
أيضا ذكر لي بعض مقتطفات من ذكرياته مع زوجته الفاضلة وخاصة في مرحلة بناء حياتهم وكيف كانت له وجهة نظر خاصة حول مفهوم الرجولة في تعامله معها ومع أهلها لضبط إيقاع حياتهم على أفضل ما يمكنه لأن مفهوم الرجولة عنده كان متسع جدا وشامل للغاية فمن تعمده أن تكون له مواقف معهم تشعرهم بأنهم كسبوا ابنا لهم وليس زوج ابنة ،وكيف أنه كان يرفض أن يجامله أهل زوجته حتى لا يحمل عبء رد المجاملات مع صعوبة أوضاعه المادية في أوائل حياته وكيف أنه كان يرفض أن يساعد والد زوجته أو والدتها في بيته تحت أي مسمى حتى لا يكون لأي أحد جمائل عليه، وكيف أنه أقنع زوجته بأن حياتهما ملكهما وحدهما وأن والدتها مهما كانت قريبة منها فأسرار بيتهما يغلق عليها صدريهما وشفاهما مهما حدث ، و كيف أنهما كانا يتفقان على ألا تظهر أمام ابنائهما إلا وجهة نظر واحدة منهما حتى لو كان لأحدهما رأي مخالف، وعندما يكونان وحدهما تتم مناقشة وتسوية مشكلة اختلاف وجهات النظر بينهما.
الحقيقة أن كلام الرجل لو أفردت له مجلدات فلن تكفيه ، فقد أعطاني في ثلاث ساعات عصارة خبرته وحياته.