Sunday, August 31, 2008

الحرة

طرق الباب بهدوء، سمع صوتها الرقيق يدعوه للدخول، ابتسم في راحة وهو يطالع ابتسامتها المرحبة بينما تومئ له برأسها محيية إياه و عيناه تتمسح بكل تفاصيل وجهها القسيم.

أصبحت زيارات العمل التي يقوم بها للشركة التي تعمل بها فرصة ليشبع انبهاره بها، لقد كانت هي تجسيداً لكل ما حلم دوما به كصفات تأسره ولا يستطيع مقاومتها، مرح وانطلاق .. استقلالية و عملية .. أنوثة و رقة .. خفة دم وروح ساخرة.

كان يشعر بتطابق معها في العديد من الطباع بينما كانت تتفرد بصفات وطباع أخرى يشعر بأنها خلقت لها، كان الوقت الذي يقضيانه معا لإنهاء العمل المشترك يمر كالريح ويزيد من تعلقه بها في نفس الوقت.

ظروف العمل أتاحت له الفرصة حتى يتحادثا طويلاً بالهاتف، بمرور الوقت بدأت هي أيضا تشعر باختلافه عن الآخرين و تجتاحها الرغبة في الحديث معه طويلاً إلى حد اختلاق أسباب واهية للإتصال به. كانت كل مكالمة بينهما تزيد من التقارب الذي بدأ يتسلل بصورة خفية اليهما حتى اكتشفا فجأة أنه لايمر يوم دون أن يتحادثا طويلاً دون أن يحتاجا لتبرير الإتصال.

لم يتردد طويلاً حتى طلب منها لقاء بعد وقت العمل حتى تتاح لهما فرصة الحديث بحرية بعيدا عن أجواء العمل، وافقت بلا تردد. لقاؤهما الأول كان هو بطله الوحيد حيث أصرت هي على الإستماع لتتعرف عليه بصورة أفضل، ثاني اللقاءات تبادلا الأدوار و بدأ يلاحظ الإختلافات الشاسعة بينهما في كل شئ، والعجيب أنه بالرغم من تلك الإختلافات إلا أن طبيعة شخصياتهما تكاد تتطابق، كاد يجن من هذا التناقض الغريب.

فمن ناحية كان الإختلاف في طريقة معالجة الأمور و التعامل مع الناس و التفكير و كل شيء خارجي كان واضحاً جداً و لكن في نفس الوقت و بطبيعته الحساسة اكتشف أنهما داخلياً توأم سيامي متطابق و لكن اختلاف البيئة المحيطة و التنشئة جعلا كل منهما يسلط طريق مختلف في الحياة.

كانت هي متمردة على كل شيء، متنمرة ، تعشق التميز على حساب أي شيء و كل شيء، كانت أنثى حقيقية و تعلم هذا ، ولكنها وأدت أنوثتها في شقها العاطفي لأنها علمت أن هناك طريقان أمامها: الأول أنوثتها و حياتها الطبيعية بتطوراتها المختلفة و المتدرجة و الثاني هو طريق العمل -وحده- . و قد اختارت طريق العمل لأنها تملك مشروعها الخاص و هي تريد تحقيق ذاتها و تتميز في عملها الذي تحبه و تعلم أن حياتها العاطفية و استقرارها سيتعارضان مع استحواذ العمل على كل كيانه، واضعة نصب عينيها نموذج عمها الذي ضحى بزواجه المستقر و الناجح من المرأة الوحيدة التي أحبها مقابل نجاحه في تكوين سلسلة صيدليات شهيرة تحمل اسمه وكانت تخبره بهذه المعلومات بمنتهى البساطة كأنه أمر مسلم به و مآله إلى الحدوث لامحالة.

و في الوقت ذاته كان هو يمثل لها نقطة إبهار بما تحمل شخصيته من شهامة و رجولة حقيقية اعترفت له بها و اسلوب لا تعرف كيف يصل به اليها و يجعلها تفعل ما يريده على الرغم من عنادها الطبيعي و عدم خضوعها لأي رأي آخر حتى أنها سألته يوما : هل سحرت لي حتى تجعلني معك هكذا؟

كان هذا بالإضافة لميل الى التدين و فروسية في التعامل تفتقدها هي و لا مجال لها في حياتها الصاخبة، هذه الطباع جعلتها تحاول الوصول لنقطة يتلاقيان فيها حتى يتحول انجذابهما الشديد تجاه بعضهما إلى علاقة هادئة تتيح لهما التفكر في وضعهما و تقييم فرص استمرارهما سويا.

شاركها الرأي و حاول كل منهما على مدار شهور طويلة أن يكيف نفسه مع الطرف الآخر و كان أشد ما يقرب منهما هو انبهار كل منهما بالنموذج المختلف الذي يقدمه الآخر له، و الحقيقة أنها بذلت أقصى ما في وسعها للتقرب من عالمه و محاولة الإبتعاد عن عالمها الصاخب و هو حاول الإقتراب من عالمها قليلا حتى لا تكون الهوة واسعة بينهما.

مرت شهور و المحاولات متصلة من الجانبين و لكن الطبيعة المتمردة الرافضة لقيود الإرتباط كانت أقوى بداخلها من قدرتها على التغيير، خاصة أنه وحده كان يمثل لها عالم بينما دنياها كلها تدور في عالم آخر و التردد حسمته طبيعته الغير متوائمة مع طبيعة عملها و حياتها و رفضه لسلوك طريقها في الحياة.

و جاء المسمار الأخير في النعش عندما تلقيا دعوة من صديق عمره لقضاء بعض الوقت مع الصديق و بعض أفراد عائلته من الفتيات الملتزمات في محاولة لجعلها ترى أن هناك من يستطيع التمتع بوقته و يمرح و في نفس الوقت يكون نمط حياته يميل للهدوء، ولكنها أحست معهم أنها تنتمي لعالم مختلف عنهم و لا تستطيع أن تعيش حياة هادئة كالحياة التي يحاول جذبها اليها.

صارحته بتفكيرها و قالت له أنها لا ترى طريقا مشتركا بينهما و أنه بينما ينتمي هو لفئة القطارات المهيأة للسير على قضبان تحدد لها طريقها و اتجاهها فهي تصنف نفسها كطير حر طليق، لا يعترف بأي قيود أو اتجاهات أو قواعد معينة و لا تحكمه إلا رغبته و ميوله اللحظية.

أحس وقتها بشيء واحد فقط .. أنه تسرع في محاولة تغييرها و فرض نمط حياته عليها، و أنه أراد أن يغيرها هو بينما كان الصحيح أن يعطيها الفرصة هي حتى تدفعها مشاعرها و رغبتها نحوه في التغيير عن اقتناع و بدون ضغط خارجي منه.

تنهد و هو يرد عليها سائلاً: هل هذا هو قرارك الأخير؟؟

أجابته بأنها فكرت كثيراً و رأت أنها غير قادرة على الإنضمام لعالمه و في نفس الوقت لا تستطيع ظلمه بمحاولة ضمه إلى عالمها الذي تعلم أن رجولته و كبرياؤه سيأبيان عليه أن يستمر فيه من أجلها، و أن تفكيرها هذا لصالحهما معا.

قال لها أنه على الرغم من إدراكه من البداية لكل هذا إلا أنه لم يفقد الأمل يوما في الإتفاق بينهما فقالت له أن هذا عامل قوي من عوامل قرارها هذا لأنها أدركت مدى الضغط الذي يضع نفسه فيه حتى يصل بهما لمنطقة وسطى بينهما و هو ما فشلت هي في مجاراته فيه.

قال لها: كنت أراهن نفسي أنني سأنجح في مسعاي، فأجابته في حزن: و أنا كنت أتمنى أن ينجح مشروعنا سوياً ولكني لم أستطع الإستمرار، ثم برقت عيناها و هي تستطرد: لم أستطع الحياة مقيدة و أمامي العالم بأسره لأنطلق فيه بحرية، لم أقدر أن أعمي عيني عن آفاق رحبة أستطيع أن أجوبها كما أشاء.

نظر مليا لعينيها للمرة الأخيرة و هو يقول لها: لن أنساك.


أبحرت في عينيه العميقتين و هي تقول: ستكون دوما معي لأنك وحدك من يربطني بالأرض.